السبت, 29 ديسمبر 2018 02:40 مساءً 0 299 0
منطق الطير
منطق الطير

وئام حمزة

 

«حاصر حصارك لا مفر
واضرب عدوك لامفر
ذهب الذين تحبهم
ذهبوا
فإما أن تكون أو لا تكون»
محمود درويش
1
غرفة هادئة دوما. نسكنها أنا والعجوز . هو خلف الأبيض والأسود من أصابع الصندوق العتيق.  وأنا في متشبث بالفواصل العمودية بيننا. وزجاج يغلفنا  والعالم خارجه لوحة صامتة لا تكترث بنا.
 باب صغير مستطيل, أسفل باب موصد دوما؛  لسهولة دخول وخروج الكلب: عون العجوز وعصاه عند خروجنا للتنزه, وأداة ترهيبية في كل حين.
البيانو صندوق قاتم لا يعلوه غبار بقية الأثاث العتيق المهترئ في الغرفة.
يضع العجوز كفيه باتساعهما على اللوح ويتنقل بين المفاتيح بسلاسة ورشاقة مدهشة. وكأنها بانتظار أصابعه لتؤدي دورها , والطريق معبدة نحو خلق جديد . متوحدان جسدا وصوتا عذبا فريدا.
  متمايلا للأمام والخلف  يمينا ويسارا كأنما داخل صندوق محدود شفاف. يرسم جسده ما يشبه رقاص الساعة: ثابت ومتكرر..
أشعر بالعزلة حين ينساني  بانغماسه ذاك. و حين ترق خطوات أنامله أظنه يخاطبني، وأفهم الكلمات التي تواسي وحدتي، وأتأكد حين يصفر أنه يعنيني .
2
العصفور على جانب القفص لا زالت تسألني, ومازلت لا أحسن الرد، وصوتي في الغرفة, محتجز مثلي داخل صندوق. تحاول فتح الباب أو تحفيزي للبحث, لكن الكلب كان دائما متربصا.. ولسبب ما تكفيني التقاءتنا الخاطفة هذه . وما كانت حريتي تستحق أن تمزقها أنياب هذا الكائن الشرس, الذي لولا القضبان لمزقني أنا أيضا.
3
الموسيقى عالية دوما ولا شكوى.
النافذة المتسعة تضيقها القضبان , تطل نحو البستان وأشجار ممتدة اتساع البصر, لوحة صامتة أغلب الأيام , لكنه الخريف و الريح تدعو كل الأشياء للتصويت والأحياء تصمت. الأمطار تدقدق السقف بلطف وتقبل الأرض بحنو . حديث الأرض والسماء دفق مسترسل والمسكن دافئ معتم والغربة ملحة البرودة.
الموسيقى تهبط من السماء على الجهاز متعدد الأزرار. وأكاد أجزم أنه يحتجز صوتي داخله. يعزف العجوز معه وتأخذه النشوة , يغمض عينيه , يذوب ويذيبني في صدى اللحن . تكسوه ملائكية أنسى بها أنه السجان وأنني سجينه, وأسعد بالنزهات من داخل قفصي, وأحمده إذ حفظ صوتي من الضياع الذي عصف بذاكرتي.
تأخذه النشوة أكثر. يتلبس اللحن: يقف وينثني وينحني, يتمايل ويدور. يخرجني, يحملني على سبابته. يواصل الرقص والدوران. خطوة خطوتان, ثم يضعني على كتفه ليصفق. ألحظ للمرة الأولى شفتيه اللتين تشابهان الكلام ولا تنطقانه, وعينيه المغمضتين في نشوة دائمة, وتقطيبة جبينه, وصوت الصفير الذي يصدره كلما قربني إليه وكأنه استجواب.
 خطوة خطوتان, يميل ويدور, والغرفة تتسع بمساحة الدوران ..
ولأول مرة أجرب جناحي, فتردعني مروحة السقف. أواصل الرقص على كتفيه. أنزل إلى الأرض فيكبحني الوحش المتربص, وتباغتني ذكرى صوتي, في محاولة تحقق أفرد جناحي كصقر, وأحلق بقدرتي كاملة .
يخيم ضباب من الأصوات واللون الأحمر. الذكريات تتسع والعجوز تزداد خطواته حدة وانفعالا و يأخذ منه السكر مأخذا كما حل بي..
فغردت لحنا قديما غنته لي أمي كل ليلة قبل رحيلي.  وغنيته لرفيقتي وبقاياها عند رحيلها. يرهف السمع وتستدق أذناه كجناحي فراشة مزهوة. يرخى السمع بحثا , يشرع في التصفير والتصفيق . يخفض الموسيقى . يتخبط من جهاز لآخر, بين جدار وآخر قاصدا زر التسجيل .
 اللعنة عن صوتي أصابت رأسه. ولوحة صامتة ارتسمت على الأرض بلون قاتم مسموم.
4
كان  صباح السبت . لابد أنه كان صباح سبت ؛ إذ كان يوما هادئا رائقا وأنا في البستان  . بفتات الخبز والماء استدرجني فقضت لقمتي على حريتي. واحتجزني ورفيقة من ذات الصيد.  لأيام صمتنا احتجاجا . ثم صرخنا احتجاجا لأيام أخر .
وفي كل غفلة منه نحاول فتح الباب, إزاحته يمينا أو يسارا, رفعه أو إنزاله. حتى كان.
 كنت حذرا فراوحت مكاني بجوار مسكني الهادئ . وطارت هي خارج القفص, وعلت وعلت.. استقبلها السجان بجسد ضخم وعينين جاحظتين , نقرتهما.. وطارت وطارت وعلت, واحتضنتها مروحة السقف . تناثرت وانتهت الثورة ..
وماتت ومقلتيه على منقارها  . فعدت للبيت بيتي , بلعت دماءها وتدفأت بريشها وانتحبت حتى مات صوتي.
هو ظل نشوانا مغمض العينين مذ ذاك. ولأيام يضغط زر التسجيل ليحفظ صوت صراخي ونواحي  ويرقص. خطوة خطوتان ويميل وينثني وينحني ويصفق .
حررتني الذاكرة , رفرفت حلقت حتى أنهكت قواي . جناحاي قليلا المراس ما عادا يحملانني. والجهاز لا يلفظ صوتي .
الغرفة تزداد ضيقا. الكلب يعلو نباحه خوفا من الرعد أو تخويفا لي .
وأنا أبحث عما يطلق صوتي الحبيس. لا أستطيع أن أحط للحظة فتمزقني أسنانه الحادة المشهرة كسيف في معركة.
العجوز مسجى كفزاعة حقل, مفرود الذراعين .. الباب موصد كعادته . الكلب ينوح, ونظراته تتهمني بما تمنيت لو كان مني. بركة الدماء تحت جمجمته تتسع على الأرض الصلبة . تكبر وتتسع, والغرفة تصغر .
الموسيقى توقفت. وترقب الصمت تلاه  صوتي, ثائرا ومحفزا من مكان ما .. نزقا مختالا .
جسد حر يترنح بين زجاج لو أنه انكسر لأكمل المعنى , وجهاز تسجيل يصدح بي .
جسد منهك يتأرجح ثملا بانتصاره, تحت المروحة لا أعلى, أعلى الكلب لا أخفض.
جسد يرقص على إيقاع صرخاته , وإغماضة النشوة الأبدية.

 

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق