السبت, 16 فبراير 2019 03:43 مساءً 0 221 0
اغتراب عن الاقتراب
اغتراب عن الاقتراب

بقلم: سيف الدين حسن بابكر

كثُر من التف حبل المشنقة حول رقابهم مُسكتاً صوتهم المسموع، وتدلت أجسادهم ساخرة من جلاديهم وسمقت أرواحهم إلى فضاءات وبراحات عليا حيث تسكن الأرواح غير عابئة بالقهر والذل والظلم والاستعباد ومشانق الفكر التي تركتها من خلفها.

إن حامل الرأي عندما يُساق إلى الموت، تقوم خطواته بالنطق إنابة عنه مخبرةً عن التباعد بينه وبين جلاديه. تباعداً مصحوباً “بمنلوج” داخلي متمتماً في سره: “وإلى متى أنتم سادرون في غيكم وجهلكم وضلالكم وظلمكم للعباد؟ ثم يصعد إلى المشنقة فرحاً بما آتاه الله من نور المعرفة والحكمة والحب والتسامح وكأن كل واحد منهم متأسياً بجاليلو: (ومع ذلك فإنها تدور.!).

هذا الضرب من ضروب التباعد بين الفرد ومجتمعه طالته مسميات كثيرة إلا أن كلمة إغتراب ظلت تتردد في السنوات الأخيرة فارضة نفسها بقوة في هذا الصراع اللغوي المعرفي. فماهي جذورها وماهو مصطلحها ومفهومها؟

الإغتراب المعنى اللغوي والمعرفي:

* في اللاتينية نجد أن أصل كلمة إغتراب هو Alienatio وهذا الاسم يرجع لفعل Alienare ويعني الانتزاع أو الإزالة وهو مشتق أيضاً من فعل ثاني هو Alienus بمعنى الإنتماء إلى شخص آخر مستمد لفظة Alius ويعني الآخر. ونجد أن استخدامه في اللاتينية مرتبط دائماً بالملكية الشخصية عندما تنتقل ملكية منقولات أو أرض من شخص إلى آخر أي جعل شيء ما منتمياً إلى كيان ثانٍ.

أما في حالة الإضطراب النفسي أو العقلي فيمكننا في اللاتينية أن نجد اصطلاح Alienato وهو يشمل فقدان الوعي أو قصور الملكة العقلية كرد فعل لصدمة نفسية قاسية.. ويستخدم هذا التعبير أو الإصطلاح مجازاً في مجال الطب العقلي ويقتصر على ذلك.

إن تنوع استعمال مفهوم الإغتراب Alienation يُظهر تعدد معانيه. وقام الكثير من الباحثين بربطه بانعدام السلطة والانخلاع، والانفصام عن الذات والأشياء والعداء والعزلة Frustration.

الإغتراب بمعنى الانفصال:

برز هذا المعنى جلياً في كتابات “هيجل” وأراد به الانفصال الحتمي لعناصر معينة في الحياة إذ تنشأ حالة من الاحتكاك والتوتر بين الأجزاء المنفصلة باعتبار أن الكون من وجهة نظره مكوناً من أجزاء منفصلة ومتناقضة ومتفاعلة ولكنها متكاملة مع ذلك.

الإغتراب بمعنى إنعدام القدرة والسلطة:

إن معنى العجزPowerlessness هو أكثر المعاني تردداً في تعريف مفهوم الإغتراب ويتأتى ذلك أو ينجم عن توقعات الآخرين بنتائج معينة ولكن شكل تلك التوقعات هو ما يؤدي إلى حالة الإرباك للفرد والجماعة وينجم عن ذلك إحباط عام.

العزلة:

يواجه المثقف دائماً بتباعد اجتماعي بينه وبين مجتمعه مرده لانعدام أو لفشل التجانس العاطفي بينه وبين مجتمعه ولشح العاطفة المتبادلة بينه وبين مجتمعه، مرد ذلك لسعيه – أي المفكر – سعيه دائماً لاستنباط نظريات وطرق معايشة دائماً ما تكون غريبة ومستهجنة في مجتمعه.

الإغتراب عن النفس:

إن الإغتراب عن النفس يحاصر “الفرد” لدى إحساسه بأن نفسه غريبة منه. وهنا جاز استخدام تعبير هو الأكثر شيوعاً: (الإنفصال عن النفس). وهو نوع من أنواع الاغترابات الأكثر شيوعاً في المدن الكبيرة فتتسع دائرة المشاركة حتى يصير قاطن الحضر جزءاً منفصلاً عن نفسه.

إن أسلوب العمل الحديث وابتعاده عن سمات العمل التقليدي الذي كان يؤديه العامل في دياره قبل النزوح للحضر يخلق إحساساً فعلياً بالإغتراب عن النفس.

إن حدوث هذا الضرب من الإغتراب يحسه من يشعر بضياع علاقاته الفردية التي فقدها ولا يمكن رتقها من جديد، كإقتفاء الإنسان المكلف لأيام نشأته الأولى خاصة عن الشباب الذي يشعر بفراغ لا غرار له وينتابه الإحساس بأنه يعيش وسط قوم لا ينتمي إليهم ولا ينتمون له، فيشعر بضياع حياته الفردية وبضياع الكثير من القيم التي نشأ وترعرع عليها. وهذا المفهوم هو الذي أيده “جان جاك روسو” والذي أسند إغتراب الإنسان وفشله إلى علاقته بالطبيعة بدلاً عن الغيبيات.

إن فشل الشباب في الحصول على فرص أعمال هادفة متساوية منتجة ليعبر عن نفسه وذاته تبعد عنه السأم والضجر والإحساس بالظلم والغبن والضيم الذي يعيشه في مجتمعه وبالتالي تنأى به عن الإغتراب. كذلك من الواضح أن سلب الإنسان حقه في التفكير والقول والفعل يأتي بمردود عكسي يفشل من جرائه الإنسان في تطوير نفسه وإشباعها، وبالتالي يصبح عاجزاً عن السيطرة على سلوكياته مما يؤدي به إلى الإغتراب الذهني والعاطفي معاً فيسير في نمط حياتي إنعزالي بعيداً عن “الاقتراب” وقريباً من التمرد والتفلت والانعتاق من أسر مجتمعه الصغير والكبير على حدٍ سواء، وقد تكون سمة للإغتراب السلوكي والنكوص عن الموروثات الاجتماعية والغيبية الشيء الذي يجعل من الإغتراب ظاهرة من أخطر وأبشع المظاهر السالبة التي تهدد السلوك البشري في عصرنا هذا وينطوي على قوة تخريب ودمار هائلتين تشكلان تهديداً مباشراً للحضارة والبشرية على حدٍ سواء بدءاً من المجتمعات الصغيرة وقفزاً للعالم قاطبة، وما نشهده اليوم في ثورة أصحاب السترات “الصفر” في فرنسا وفنزويلا يقف شاهداً ودليلاً قوياً لما أبناه من قبل عن “الإغتراب عن الاقتراب”.

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق