السبت, 09 مارس 2019 03:13 مساءً 0 278 0
الزمان
الزمان

عيسى الحلو

.. هذه السيولة التي تجري كالماء.. لحظة مستديرة... تمتلئ بكل التاريخ..
الماضي والحاضر والمستقبل.. لحظة.. هي حركة تتراجع إلى الوراء.. وتتوقف لحين.. ثم تتقدم إلى الأمام.
فلسفة الزمان.. تدرس هذه الخلية الحية في نسيج الزمان والتي نقتطعها من السياق العام لمجرى الزمان.. هي هذه اللحظة الآنية التي هي كثافة كل الزمان. ولكن من الصعب جداً أن تقتطع من جريان الماء نقطة ماء.. وتعزلها عن نسيجها.. وأن تعتبر أن الماء.. كل الماء هو هذه النقطة المستقطعة من جريانها ومن تماسكها.فالزمان في فكرنا الإسلامي هو خط دائري.. مجموعة نقاط تكون محيط الدائرة الذي ينفلق في النهاية على ذاته.. ميلاد واضمحلال وموات ثم نشور. فمثلما يعاني الناس من الزمان
.. يحيون ويبلون.. فكذلك تفعل لحظات التاريخ الكبرى فالتاريخ عند مؤرخ مثل أرنولد تونبي هو الذي يعتبر أن اللحظات الكبرى التي تنجزها الحضارة هي نتاج تحديات تواجه الإرادة الإنسانية. أمام تحديات المستعمر صنع العرب والأفارقة استقلالهم، وأمام ذات التحدث أخذوا يحدثون أدواتهم ومناهجهم التي يمكن أن تبدع موقفاً حضارياً متقدماً.ومن تجليات هذا التحديث ما حاولت القصيدة العربية الجديدة إنجازه، أولا كانت القصيدة الرائدة في العراق
 (السياب- نازك- البياتي) ثم جاءت موجة (فارس- جيلي- فيتوري- تاج السر الحسن (ن السودان) وعبد الصبور وحجازي (مصر) وفي لبنان الستينات انفجرت قصيدة النثر.. (يوسف الخال- شوقي أمير الشعراء- أدونيس- توفيق الصائغ). كل تيارات التحديث هذه التي شملت الحياة العربية فجرت حيوية فكرية حارة... ما بين مبارك للحداثة وما بين رافض.. وكانت مساحة الرفض أكبر من مساحة القبول
.. لأن الجديد لا يقبل بسهولة عادة.
والآن أصبحت الكتابة العربية المعاصرة كلها تأخذ بموقف الحداثة.. بل أصبحت القصيدة العمودية تكاد تندثر تماما
ً.. واستجدت فنون كالدراما التلفزيونية والأغنيات المصورة، بل أ الحداثة أخذت كل شيء أمام تيارها الجارف.. وأصبح نقاد العرب على أن العصر الآن هو عصر الرواية.. فالورية العربية تسعى لأن تصبح هي ديوان العرب.. بعد أن كان الشعر هو ديوان العرب منذ الجاهلية حتى عهد قريب.سبحان الله.. ما الذي تغير؟.. أنه الزمان.. فلحظة التحديث تلك التي اشتعلت واهنة في البدء كعود ثقاب.. أخذت تشع وتغمر مساحات واسحة من حياتنا. إن رواد الحداثة العربية الإبداعية في السياسة والاجتماع والجمال.. قد مضوا ولكنهم مهدوا الطريق للأجيال لأن تبدع. فالإبداع ليس هو استحضار لحظة ماضية.. ولكنه هو استنباط حكمة الماضي.. وإعادة تشكيل الماضي في الراهن.. لا بمعنى تكرار الماضي
.. ولكن بمعنى استلهامه.. بمعنى أن تستطيع رؤية إبداع الحاضر.. أن ترى هيئة الماضي التي تعيد صياغة نفسها في الحاضر.. فالحاضر يشكل نفسه بوصفه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.. ومن ثم فالحاضر هو الذي يتشكل في الماضي.. وليس الماضي هو الذي يتشكل في الحاضر. وهذا ما أكده سودانياً محمد عبد الحي في قصيدته
 (العودة إلى سنار).. وأيضا هو ذات اشيء الذي تؤكده رويات الطيب صالح.. إذ يرى الطيب صالح أن الأب هو ضحية الجد والحفيد.. الماضي والمستقبل.. فالأب يرمز للحاضر والجد يرمز للماضي والحفيد يرمز للمستقبل.. الأب هو اللحظة المتمثلة بأزمنتها المتناقضة.فقراءة الزمان وجودياً... كما فعل الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه العظيم (الزمان الوجودي) تعلمنا ألا نجعل اللحظة الراهنة الأب الضحية.. ألا نجعل اللحظة الحاضرة مستلبة بفعل لحظة ماضية ولا بفعل أماني لحظة مستقبلة.. أننا الآن.. هنا.. داخل الراهن.. داخل الحاضر
.. كلحظة تحمل جذورها.. تحمل ماضيها.. وتحمل مستقبلها.. وما حاضر هذه اللحظة إلا تمظهر كل إمكانياتها التي تتفجر طاقاتها الإبداعية كلها هنا والآن وهي في ذات الوقت يمكن أن تقرأ كحاضر وماضي ومستقبل.. وذلك على اعتبار أن كل هذه الأزمنة هي إمكانات خبيئة قابلة للتفتح والتفجر والتحقق. ولهذا فالقصيدة.. ليست هي قصيدة.. وكفى.. ولكنها لحظة كاملة تمتلئ بكل هذه الحقائق التي هي تجليات التاريخ والحضارة.. هي جهود لإجابات أسئلة التحدي كما يقول (تونبي).وبما أن المبدع.. أي مبدع هو في ذات اللحظة جماع كل هذه الأزمنة.. فلاشك أن موهبته التي توضع أمام التاريخ هي موهبة مستلهمة لكل حقائق اللحظة.. وذلك على اعتبار أن الزمان.. يجري كالماء.. ومن الصعب أن تجعل من نهر الزمان.. نقطة ماء.. مجرد نقطة.

 

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق