الهادي عز الدين
دآو أسم بلغة الدينكا ويعني الطفل البديل .
تملكني القلقْ ، وإجتاح دُنيـاي السعيدة ، فخرجتُ حزيناً لعلي أطرد تلك الرؤى الرمادية من حياتي ، من الشقة نزلت ، بدَأً من الطابق السادس ، حيث أسكن ، وتسكن معي الطمأنينة طيلة أيام السنة ، أكتب وأقرأ أوأعزف على ألة الكمان التي عشقتها في آخر اللـيل وقت هدأة النفوس المُتعبة ، فتخرجُ الألحان رتيبة ، هذه الشقة التي أسكنها بجسدي وتسكنني بالهدُوء ، تسللت ذات مرة ذبابة ودخلت الشقة ، فطاردتهُا من غرفة لأخرى خوفاً عليها من موت الوحدة ، لكنها رفضت الخُروج و ماتت في يومها الثالث من الشيخُوخة ، أمـد يـدي وأخـذُ كتاباً فتنزلُ الكلمات دوماً مثل المطر وتغزو فكـري المُتعطش للحروف ومعانقتها ، الأيام تجري بسرعة يا صديقي ، هذا كلهُ لم يعُد يهم ، فقد بدأ الشيبُ يغزُو السواد في رأسي ويطردهُ ، نزلت طابقاً تلو طابق ، حتى وصلتُ للطابق الأرضي ، لم يكن هناك أحد على الأطلاق الجميع نائمون ، ربما برودة الجو هي السببَ ، عم حسن البواب توارى خلف غرفته تحت السلم من الصقيع البارد وذهب في ثُبات عمَيق متدفئاً وحالماً بحلم جميل.
لأباس ، مضيتُ قاطعاً المسافة بين العمارت الصامتة مشـياً على الأقـدام ، خَـلا الشارع إلا من بعض الهسيَس القادم بفعل الريح ، أومواء قطة عندما تقفز من ذكرها وتتوارى خلف العششٌ خجلة من الأنظار مسُتلذة بذاك الفعل الجميل ، قاهـرة المُعـز أحبها جداً ، لا لا بل صرتُ أعشقها ، برغم برودة جوَها في فصل الشتاء الطويل ، الأ أن البهجة في الروح تعلن عن نفسها وتكبر يوماً بعد يوم مع بداية الربيع ، هذا الحي الشعبي العتيق في أطراف القاهرة يسكنه الفقراء و طيبٌو القلوب من الناس .
صعدتُ على ظهر العربة الواقفة في محطة المدق ، وجلست في رُكن الكنبة فاركاً يدي فركاً ، مولدا طاقة من الدفء ، تحركتْ العربة وهي تئٍن من حملها ومن نفسها ، المرأة الضخمة الجالسة أمامي ، وبجوارها فتاة ترتدي جينز ضيق ، ويلتف حول صدرها الضخم ثعبان فاتحاً فمه نحوي .
الطفلة منكوشة الشعر جالسة على حجر المرأة الضخمة ، مدت يدها تُداعبني ، مددتُ يدي إليها فإذا بالمرأة الضخمة تسحب يد الصغيرة بسرعة وتؤنبها فتصمت العربة الأ من بعض الأزيز الصَادر من حركة العربة و أجزائها المُنهكة طوال النَهار .
أخيراً وصلنا محطة المترو ، قبل أن أنزل دسستُ باقي الأجرة في يد الطفلة الصغيرة فأبتسمت ، جلستُ في عربة المترو أتصفح الوجٌوه التي تجلس أمامي في هدوء تام ، باحثاً عن تلك النكتة وروح الدعابة في الوجوه التي شاهدتها و أنا طفل في وجوهُ الممثلين المصريين وعمالقة الفن أمثال فاتن حمامة فشعرتُ بالأسى .
في محطة الأسعاف ، دخلتٌ كنيسة القديس المبُجل سانت أندرو ، القيت التحية على حُراس الأمن السوداني والمصري ، كانت الكنيسة قد خرجت من قُداس الجمعة ، تفرق المؤمنيَن في الواجهة الأمامية والمْمر الطويل إنتهاءً بالجلوس على النجيل الصناعي الأخضر المفروش بعناية في واجهة المدخل ، خميسة و أنقير ، فتاتتان طيبتان ، القيت السلام عليهن وداعبتهن ببعض الكلمات اللطيفة الأنيقة فأبتسمتا ، في أخر الممَر الضيق جلست المرنمة نياموم وبجوارها يوحنا صامتاً ، سألتني نياموم بذكاءها المذهل عن سبب غيابي من الصلوات ، أجبتها بصدق دون تردُد بعدم فهمي للغة القُداس ، فرأيت حاجبيها يرتفعان لأعلى من الدهشة ، و ددتُ أن أقول لها أنت فتاة ذكية ويعجبني ذلك لكنني لم اقول ، ومشيتُ حتى وصلتُ باب الصالة ، وجدتُ أتـيّــان الشابة الهادئة فعرفتني بأختها فلورا ، فأنبتها لأنني أول مرة أرى فيها أختها لكنني على كل حال أعربتُ لها عن فرحي و أمتناني بمعرفتها .
داخل الصالة التي تفرق فيها عشرات المؤمنيَن على الطاولات ، في طاولة جلست ألونـق بجوار صديقتها أديــوُ التي لا تفارقها أبداً ، جلستُ بجوار القديسَة المُباركة إبتــهَاج التي تسعدني رؤيتها على الدوام أو حينما تنشر هي البهجة في المكان ، صامتاً أمجد الرب وميموناً أستقبل الكلمات الطيبات ، التي تخرج من فمها ، مزهواً بدوائر الطاولات التي يلتفُ حولها مؤمنـيَن مُبـاركين ، تحدثت القديـسة إبتـهَاج عن الإصحَاح الخامس عشر لأنجيل متىَ ، وتهيـبَ الجميع للإستماع والإستمتاع بروح الحديث المبُـارك ، أسـهبت في حديثها ، وإبتدرتُ أنا سؤالاً لكنني منعاً لتشتيت بال المؤمنـيَن صمتُ ، التفتت نحوي وهي تتكلم لتتأكد من متابعتي ، وفتحتُ عينيَ وأنا أشكر نعمة الرب إذ منَ علي بنعمة السمع ، فإذا بها تعـُود وتُواصل حديثها ، و أغمضُ عيني مرةً ثانية ، وفي غمرة صلاتي نظرتُ للأسفل تأدبـاً وتهيـباً ، في أثناء جلسـَتنا مرت المُرنمـة أدآو و في يدها كباية شــاي ، ناديتٌها وخطفتٌ كباية الشــاي من يدهـا فعادت لتجلب اُخرى برضٌى وطيبٌ نفس ، لكنني ناديتُها وبينما أنا أتذوقهُ لأعيدهُ ليدهـا مرةً ثانيـة مُداعبـاً قلت لها ، أنا نفسي في كبايتك وليس الشــاي ، فأبتسمت أداوآ من الفـرح وهي تأخذ كباية الشــَاي تلأحـق بصديقتها نــُورا وهُـنَ حبائس ضحكات مكتُومة ، بينما التفتت المُباركة إبتــهَاج لتـرى ما يحدثُ حولها .