السبت, 10 نوفمبر 2018 03:24 مساءً 0 487 0
وردي الأسطورة الخالدة
وردي الأسطورة الخالدة

على إمتداد تاريخ السودان الحديث كان “وردى “هو لسان حال شعبه،والنبض المعبر عن إحلامه وأحزانه،ويتجلى ذلك بمختلف المراحل السياسية، حيث شهد السودان منذ استقلاله عام 1956 ، أكثر من 11 محاولة انقلابية، وحكمه عسكريون منذ الاستقلال 45 عاماً ممتدة على ثلاث فترات انقلابية، مقابل 11 عاماً لحكومات مدنية ديمقراطية لثلاث فترات متفرقة، وعرف أيضاً ثورتين شعبيتين أطاحتا بحُكمين عسكريين؛ الأولى عام 1964 وأطاحت بحكم إبراهيم عبود، والثانية عام 1985 وأطاحت بحكم جعفر النميري.
وكانت بداية تفتح وعى “وردى” السياسى غير موفقة،حيث دفعه حماسه وإرتفاع أسعار بعض السلع،و تصاعد أزمة حلايب بين الزعيم المصرى جمال عبد الناصر الذى يحبه من ناحية ،ومن ناحية أخرى حكومة عبد الله خليل (أول حكومة بعد الإستقلال بالسودان) للتفاعل فى 17نوفمبر1958 مع الإنقلاب العسكرى الذى قاده إبراهيم عبود، حيث كتب ولحن وغنى مع طلبة المدارس نشيد (في 17 بعثت ثورة … ثورتنا السليمة … جيشنا الباسل هب وعلي رآية الجمهورية)، وبعدها بأيام فوجىْ “وردى” وهو يغنى فى جامعة القاهرة فرع الخرطوم بالطلبة يهتفون ضده (يسقط فنان الفاشيست)، وهو الهتاف الذى أزعجه، وعندما جلس مع نخبة من المثقفين المقربين منه ،أوضحوا له أن الإنقلاب صورى ومدبر ، وأن حكومة عبدالله خليل كانت ستسقط عند إفتتاح البرلمان في 17نوفمبر(وهو اليوم الذى وقع به الإنقلاب) ، وستتولي المعارضة الحكم ، ولذلك قام بتسليم السلطة الى الجيش ، ومع مطلع 1959م بدأ وردي في تغيير موقفه من النظام ، كما بدأت نظرته الى الشعر تتغير.
{  بقظة شعب
عام 1961 شهد بشائر تمرد وردى علنا على حكم عبود ،وبدأ ذلك عندما قدم أغنية “راية الإستقلال” من كلمات عبدالواحد عبدالله ، ورفض بشكل قاطع الإشارة إليه فى النشيد رغم مطالب بعض الوزراء بذلك،وتكرر الأمر نفسه فى العام الذي يليه عندما قدم (( يقظة شـعب )) من كلمات مرسي صالح سراج ، أما العلامة الفارقة فى هذا الصراع فكانت مع تدشين الخطوات التنفيذية لتطبيق إتفاقية مياه النيل ، التي مهدت الى قيام السد العالي ، وهو ما تطلب ترحيل أهالي حلفا .
ووقتها فوجىْ الاهالى بتراجع الحكومة عن وعدها لهم بالتسكين فى منطقة حوض السليم بدنقلا ، وكان أن إنفجر الغضب الشعبي، وقام النوبيون في الخرطوم بتنظيم إجتماعات في منزل وردي ، ومنازل أخرين،و نتج عن ذلك الدعوة الى المظاهرات التي تمت في نوفمبر 1961م . وكانت أول تحد شعبي للنظام العسكري ، في تلك المظاهرات عرف وردي مسـيُل الدموع لأول مرة ، وتم إعتقاله مع آخرين ، وأخذوا الى مديرية الخرطوم ، وقرروا ألا يتحدثوا باللغة العربية إطلاقاً في التحقيق، وبعد الفشل في إستجوابهم ، تم الحكم علي وردي بحسن السير والسلوك لمدة عام ،وبعد خروجه من المعتقل ،سألوه أسباب مغامرته بالتظاهر، وهو الفنان المعروف فقال وردى (( هؤلاء أهلي وأنا لا أساوي شيئاً بدونهم وهم الذين شجعوني وساندوني حتي دخلت الإذاعة .. والبلد التي ستغرق بلدي في النهاية ))
{ أنا أفريقي حر
فى الفترة من 1986 إلى 1989 كان وردى داعما للحكومة المدنية التى شكلها الصادق المهدى بالإتفاق مع زعيم الحزب الإتحادى محمد عثمان الميرغنى ،وغنى فى ثانى تعاون له مع الفيتورى قصيدة ( عرس #السودان)، وقال فيها “وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان إلا النسور الجبال/يا شرفة التاريخ/يا راية منسوجة .من شموخ النساء وكبرياء الرجال “،و(حنبنيهو البنحلم بيه يوماتى/وطن خير ديموقراطى) و(ياشعبا لهبا ثوريتك /انت تلقى مرادك والفى نيتك)..لكن وعلى غير ما يتمناه قام العميد عمر حسن البشير فى 30يونيو عام 1989 بقيادة انقلابا عسكريا وأستولى على الحكم، ليعلن رحيله إلى مصر مع قيادات 13حزبا معارضا.
ومن القاهرة أطلق وردى أغنياته المعارضة للنظام  ثم انضم إلى الحركة الشعبية بقيادة الدكتور، جون قرنق، وغنى وردي لثوار الجيش الشعبي في أدغال الجنوب، وللاجئين السودانيين في إثيوبيا، وللمقاتلين في شرق السودان، وبعدها هاجر وردي إلى الولايات المتحدة التي مكث فيها طويلا، إلى أن اكتشف مرضه بالفشل الكلوي هناك. وفي عام 2003 عاد وردي إلى السودان، وكان يتلقى العلاج من مرضه، وأجرى عملية جراحية نقل كلية في العاصمة القطرية الدوحة.
ورغم الحفاوة الشعبية والرسمية التى قوبل بها وردى،حتى ان البشير غنى معه فى إحدى جلساته ،إلا أنه عندما دعى للمشاركة فى أحتفالات توقيع إتفاقية السلام التى انتهت بإنفصال الجنوب ،لم يفته أن يردد أغنيته (أصبح الصبح ) وهو يشدد على المقطع الذى يقول فيه (أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا) ،وعندما طالبه أحدهم بتقديم اغنية (راية الإستقلال) ،علق (وينو الإستقلال..الجنوب بينفصل)،ويومها بكى أغلب الحضور ومنهم الصادق المهدي وياور (حارس) الرئيس البشير.
ومن المفارقات فى مسيرة وردى أن وطنيته التى لم يساوم عليها يوما دفعت الجميع لتقديره وأحترامه ،ومنهم حتى معارضى الغناء من أنصار السنه والترابى الذى هاجمه ،وكذلك الصادق المهدى وجون قرنق ،وحتى النميرى ،حتى انه بعد الإطاحه به ،وفى احدى الحفلات تجاوز حرج الداعين من تواجدهما معا ،وقال لهم (قعدونى  جنب حبيبي)
:: {  قال الرئيس التشادي الأسبق تمبلباي عن وردي :- لماذا يحبك شعبي كل هذا الحب وأنت لا تشبههم ؟ وهو أيضاً كان من أشدَّ المعجبين به - ودعاه نميري في العام ١٩٧٣م لحضور إحتفالات أعياد مايو؛ وفي أثناء الحفل سأل تمبلباي نميري :- أين وردي ؟ فردَّ عليه :- وردي سايب الغنا وعامل فيها سياسي وشيوعي ! وكان تمبلباي يعلم بأنه مسجونٌ؛ لكنه تظاهر بأنه لا يعلم ذلك - فقال لنميري :- سلمو لي في إيدي وأنا آخده معاي لأنجمينا وأريحك منو وما بخليهو يتكلم ضدك أو في السياسه (حسب حبه له وعشقه لفنه) - وأطلق نميري سراحه إكراماً للرئيس التشادي؛ لكنه بقي بالسودان .
{  قال ريك مشار بعد الإحتفال الكبير بأديس أبابا عام ١٩٩٧م والذي تُوِّج فيه وردي كفنان إفريقيا الأول :- تأكدت بأنني لست زعيماً سودانياً ولا الصادق ولا الميرغني ولا قرنق ولا أي شخص؛ وإنما الزعيم الحقيقي هو الفنان محمد وردي
{  رئيس اليمن الجنوبي السابق على ناصر محمد كان من المعجبين بوردى - ودعاه لإقامة حفلات في عدن .
{  الأمير عبد الرحمن بن سعود كان من المعجبين به - وقال عنه وردي أنه إنبهر بلطفه وحضور بديهته وشاعريته؛ وهو مُحبٌ للفن الراقي الجميل - وقال أنه منحه إقامة بالسعودية - وأهداه عوداً وكان يحتفظ به كذكري .
{  كان الرئيس القذافي من المعجبين به ومنبهراً بالأغنية الوطنيه (أصبح الصبح) - وفي العام ١٩٨٨م عندما هدم السجون دعاه عن طريق الملحق العسكري الليبي إلي ليبيا للمشاركة في إحتفالات هدم السجون؛ وكان وقتها في اليمن الجنوبي - وفي إثناء إلقاء القذافي خطابه؛ أرسل أحدهم لوردي للصعود معه في المسرح - وعانقه ورفع يده وقال للجماهير :- هذا هو الفنان الذي غني أغنية أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي - وقد أهداه وساماً ذهبياً .
{  قال الفنان الإثيوبي تلهون :- الشمس واحدة والقمر واحدٌ ومحمد وردي واحدٌ .
    {  ميري ملوال دينق مواطنة من جنوب السودان قالت :- أغاني وردي كانت السبب الرئيسي في دخولي للإسلام - وتعلمت اللغة العربيه من أجل أن أفهمه .
{  إتفق كل الشعب السوداني علي حب وردي بمختلف أحزابه ودياناته وإثنياته وقبائله - وتخطي وردي حدود السودان إلي الدول الإفريقيه والعربيه - فأصبح مطرب الجماهير في إثيوبيا وأرتريا والصومال وجيبوتي وتشاد ومالي وإفريقيا الوسطي والنيجر ونيجيريا وليبيا واليمن ومصر وغيرها - فأصبحت أغانيه وموسيقاه عامل وحدة وإتحاد إفريقي - فهو ليس مجرد مطرب عادي - فوردي يمتلك موهبةٍ فذه جعلت قلوب وعقول وأمزجة الناس من الجنسين تنجذب لسحره - فهو يمتلك كارزيما طاغيه وسحرٌ فريدٌ من نوعه .
{  ذكر لي أحد العاملين معنا في الرياض وهو من السودان - أنه كان يستمع للفنان وردي من شريط الكاسيت في سيارته - وذهب للبقالة لشراء بعض الحاجيات وعند وصوله للبقاله؛ ترك السيارة في وضع التشغيل ونزل وذهب للبقالة - وفي هذه الأثناء حضرت فتاة أو سيدة سعودية مع سائقها للبقاله للشراء أيضاً - وتوقفت سيارتها قرب سيارة زميلنا - وإستمعت للفنان وردي من شريط الكاسيت - وعندما خرج زميلنا من البقالة وهمَّ بالصعود للسياره - تفاجأ بأن هذه السيدة تجرأت وقالت له :- لو سمحت ممكن تهديني هذا الشريط لأنني أُعجبت جداً بهذا الفنان - فأهداها الشريط بكل سرور - وعند عودته قابلني وحكي لي ما حدث معه .
{  وخلاصة القول أن الموسيقار الكبير وردى كان يتسلل للقلوب خلسةً وبسلاسةٍ ودون إستئذان - رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جناته  .

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق