الاربعاء, 11 ديسمبر 2019 01:00 مساءً 0 780 0
متاريس
متاريس

بعد إيه
يا عبد الرحمن الصادق المهدي

يحكى أن شاعرنا الأستاذ الراحل إسماعيل حسن بعد انفصاله عن زوجته ومحبوبته «فتحية»، تسارعت خطى الانفصال برغبة ذويهما؛ لذلك ضاق منزل حي السجانة بشاعرنا فقرر أن يتركه ويرحل بعيدًا إلى شمال الوادي علّه يرتاح من شدة ما كان عليه من لوعة واشتياق.
جرح شاعرنا كان أكبر من أن يندمل بالتسفار والنسيان.. عاد إلى حي السجانة ثم إلى منزل محبوبته «فتحية» وقد قابله بالباب شقيقها «مصطفى» الذي لم يحسن استقباله وعندما ذكر له شاعرنا أنه راغب في أن يرد «فتحية» أجابه مصطفى بأنها قد خطبت لشخص آخر لم يحتمل «أبوالسباع» هول الصدمة فأدار ظهره عائدًا مكسور الخاطر.. ولكن سرعان ما لحقت به «نعمات» صديقة فتحية تحمل اعتذار فتحية عما حدث،  وقتها تملّك الكبرياء من شاعرنا الذي ظن أنها فعلًا قبلت بغيره فبدأ يتمتم بالقصيدة الشهيرة التي يقول مطلعها  (بعد إيه جيت تصالحني بعد إيه) إلى آخر القصيدة المعروفة للجميع.
جاء في الأخبار أن اللواء الركن عبدالرحمن الصادق المهدي أصدر بيانًا يعتذر فيه عن مشاركته في النظام المقبور في الفترة من 2011م إلى 2019، ثماني سنوات بالتمام والكمال كانت كفيلة بجعل السيد اللواء ركن عبدالرحمن الصادق المهدي  يعرف حقيقة نظام الطاغية  البشير، تلك السنوات الثماني العجاف شهدت فيها البلاد العديد من مصائب الكيزان  بدءًا من كارثة انفصال الجنوب في العام 2011م مرورًا باندلاع القتال من جديد في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق في العام نفسه، وفي العام 2012م وقعت أحداث منطقة هجليج، وفي 2013 تعامل نظام البشير بعنف مفرط مع هبة سبتمبر المجيد وسقط العديد من الشهداء، وفي 2014م كانت مهزلة ما يعرف بالحوار الوطني الذي أراد به نظام البشير كسب الوقت وصولًا إلى 2015م حيث قام بتنظيم انتخابات رئاسية وفاز فيها على نفسه وقد كان قبلها قد صرح لصحيفة عربية بعدم الترشح مرة أخرى ولكن سرعان ما تراجع.
 وفي العام 2016م رفع نظام البشير الدعم عن الوقود والخبز بشكل مبالغ فيه حتى ضاق الحال بالشعب، وفي 2017م أعلن النظام حربًا وهمية على الفساد لكنه لم يكن صادقًا مع نفسه وعندما أراد المساس بثروات رفاقه بالأمس من الكيزان وجد البشير حرب شعواء منهم بسبب تجاوز البشير عن فساد إخوانه وحرمه المصون؟
ومع بشائر العام 2018م لاح في الأفق بصيص الثورة على البشير وسرعان ما تم التصدي له في يناير من العام نفسه وفي الوقت نفسه واصل  البشير محاربة فساد رفاقه الكيزان الذين كشروا عن أنيابهم فارتفعت الأسعار وانعدم الخبز والوقود، ولم يشفع للبشير إرجاع الفريق أمن صلاح عبد الله الشهير بقوش الذي قام آخر المطاف بالانقلاب على البشير نفسه في العام  2019م حيث رد الصاع  صاعين انتقامًا لنفسه من نظام البشير الذي كان قد أدخله السجن عندما حاول القيام بمحاولة انقلابية  في العام 2012م.
لا أدري ما هو السر الذي جعل سعادة اللواء ركن عبدالرحمن الصادق الصديق عبدالرحمن محمد أحمد المهدي يطلب الغفران من شعب السودان، ألا يتفق معي ابن الإمام الحبيب بأن التوقيت غير مناسب؟ أما كان له أن يصبر فترة الثلاث سنوات الانتقالية عسى يصاب الشعب السوداني بالنسيان،  وينسى أنك كنت ذات يوم مساعدًا للطاغية المخلوع  البشير.
ولكن اتفق معك سعادة اللواء أنه ليس من العيب المشاركة في نظام شمولي بغية الإصلاح من الداخل، فقد حاول من قبل السيد مبارك الفاضل عندما كان مساعدًا للبشير من 2002م إلى 2004م وخرج بعدها واعتقل في العام 2007م عندما اتهم بتدبير انقلاب على البشير ورجع أواخر العام 2017م وزيرًا للاستثمار في حكومة البشير قبل السقوط.
ولم يشذ مني أركو مناوي عندما كان كبير مساعدي الرئيس المخلوع عمر البشير بعد اتفاق أبوجا لسلام دارفور في الفترة  من 2006 ـ 2010  ولكن يحسب له خروجه في أوج قوة النظام بعد أن اكتشف خداع نظام البشير ورجع إلى التمرد  مرة أخرى.
وفي سبعينيات القرن المنصرم حاول الإمام الحبيب السيد الصادق المهدي إصلاح نظام مايو ولكن عندما عاد  للسودان في 1977م تبيّن له الخداع المايوي في ضمان الديمقراطية والإصلاح السياسي، فاعتبر المصالحة قد فشلت ولكنه آثر البقاء في السودان لمعارضة النظام المايوي من الداخل.
وقبل كل هؤلاء كان الإمام محمد أحمد المهدي الذي قاد ثورة تحرر وطني ضد أعتى جيوش ذلك الزمان، لم يكن الإمام محمد أحمد المهدي يبحث عن سلطة دنيوية ولم يقبل كل عروض الإغراء بأن يكون سلطانًا له مملكة يتوارثها أحفاده من بعده ويتبين لنا ذلك عندما كتب غردون باشا حكمدار السودان أولى رسائله للمهدي مخاطبًا إياه بفخر الأولياء الصالحين وعارضاً عليه في سنة 1884م أن ينصبه سلطانًا على كردفان، ذاك العرض الذي رفضه المهدي في إباء وترفع، وضرب الإمام محمد أحمد المهدي أروع الأمثال وقام في سابقة تاريخية بتطبيق أول نظام ديمقراطي في إفريقيا عندما اختار عبد الله التعايشي ليكون خليفة له في العام 1885م وهو لا يقرب له، وتقبل أبناء الإمام المهدي الأمر بصدر رحب بل حارب ابنه محمد بشجاعة نادرة تحت راية الخليفة عبد الله التعايشي حتى سقط شهيدًا في معركة كرري في العام 1898م.
 ذلك هو تاريخكم الذي هو تاريخنا ونفخر به سعادة اللواء الركن عبدالرحمن الصادق المهدي، ومؤكد أنك اطلعت عليه عبر صفحات الكتب وقبل ذلك سماعًا من الأسرة الكريمة.
سعادة اللواء ركن عبد الرحمن ربما كنت تعلم عن فساد المخلوع عمر البشير وكان بالإمكان أن تبادر بتقديم النصح له وتمارس مهام منصبك كمساعد له بكامل الصلاحيات كما فعل من قبل الفريق أول عبد الماجد حامد خليل نائب النميري الذي نال بسبب عدله وإحقاق الحق قبول الناس، وكان كثيرًا ما يعترض على بعض قرارات النميري غير المدروسة بعناية فائقة فضاق صدر الطاغية النميري ليصدر بعدها قرارًا بإعفاء الفريق أول عبد الماجد حامد خليل نائبه الأول من كل مناصبه بصورة مفاجئة في العام 1981م ولكن التاريخ أنصفه فاستعان به السيد الصادق المهدي في حكومته وزيرًا للدفاع في العام 1986م.
 لكنك يا سعادة اللواء ركن عبدالرحمن الصادق المهدي استمررت في ممارسة مهام مساعد البشير حتى لحظة سقوط الطاغية وكان بالإمكان أن تقدم استقالتك من النظام الذي كان سقوطه معروفًا للجميع.
وحتى بعد سقوط البشير كان الأفضل أن لا ترجع إلى الخدمة العسكرية من جديد تماشيًا مع مدنية الدولة، يمكنك أن تلعب دورًا مدنيًا في شتى ضروب الحياة، فكما نعرف أنت رجل متعدد المواهب.
كان هذا الشعب يحتاج إلى صوتك عندما كان البشير يمارس عليه شتى صنوف القمع إبان كل الثورات التي اندلعت خلال فترة عملك مساعدًا له بدءًا من هبة سبتمبر حتى سقوط النظام.
كان الشعب يريد سماع صوتك والبلاد تقدم الشهيد تلو الشهيد  في كل مدن البلاد.
كان الشعب يريد سماع صوتك عندما طبق المخلوع سياسة رفع الدعم عن الخبز والوقود في أكثر من مناسبة.
كان الشعب سيسعد حينها ويقدر لك ذلك.
اشتهر الإمام الصادق المهدي إبان توليه منصب رئيس الوزراء من 1986م ـ 1989م بتحويل راتبه الشهري لصالح جامعة الخرطوم دعمًا لها، كما كنا نسمع من الآباء والأجداد، ولم يسكن في منزل حكومي بل كان يعمل بدون مقابل لذلك فشل نظام المخلوع البشير في إثبات أي تهمة فساد مالي ضده فكانت سمعته مثل الجنيه (الدهب)  كما في المثل.
الجيل الحالي ليس مثل الأجيال الماضية فقد صار بفضل التقانة المعلوماتية كل شيء متاح، ويمكن من خلال الهاتف المزود بالإنترنت الحصول على سيل من المعلومات، وبسبب ذلك سقط الفريق أول عوض ابن عوف في أقل من 36 ساعة بعد توليه مقاليد السلطة بسبب مقولة له عند اندلاع الثورة حيث قال: (إن الجيش مع البشير) فحفظ له ذلك التصريح في الأسافير، وإذا قدر للإنترنت الوجود في العام 1985م لسقط المرحوم المشير سوار الذهب الذي شارك في مسيرة الردع لنصرة نظام مايو قبل السقوط في السادس من أبريل 1985م، ولكن قدر الله ولطف لعدم وجود ذلك الاختراع في ذلك الوقت.
الشعب السوداني طيب يا سيد عبدالرحمن الصادق المهدي، لا يعادي إلا من تلطخت أياديهم بدماء الشهداء والضحايا، ونشهد لك يا عبد الرحمن بعدم مشاركتك النظام المقبور في حروب الإبادة التي كان يشنها على المهمشين.  
رسالتي لك سعادة اللواء عبد الرحمن الصادق المهدي بالابتعاد عن عالم السياسة على الأقل في هذه الفترة الانتقالية، يمكن أن تعكس اعتذارك هذا بإنشاء منظمة إنسانية تعمل لرعاية أسر شهداء وضحايا الثورة المجيدة،  فمن خلال علاقاتك الواسعة داخل وخارج البلاد تستطيع أن تقود تلك المهمة الوطنية باقتدار، وهي لا تقل أهمية عن ساحات المعارك، فالكثير من أسر الشهداء من ذوي الدخل المحدود  ولاتزال هناك مساحة للصعود إلى قطار الثورة.

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

hala ali
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق