الخميس, 09 يناير 2020 01:53 مساءً 0 332 0
تأملات
تأملات

جمال عنقرة

رفع الدعم.. العلاج بالنار

العنوان الأول الذي اخترته لهذا المقال كان (رفع الدعم. . العلاج المر) لكنني وجدته غير كاف للتعبير عن الحالة، فاسميته  (رفع الدعم. . العلاج بالكي) فخشيت ألا يفهم البعض معني ومدلول كلمة الكي، فذهبت إلي هذا العنوان الأخير (رفع الدعم. . العلاج بالنار) وارجو أن يلاحظ الناس ثبات كلمة العلاج في كل خيارات العنوان، ذلك ألا علاج لمشكلات الاقتصاد السوداني بغير رفع الدعم بالطريقة التي كان عليها في عهد الإنقاذ السابق، والذي وقفت حكومة الإنقاذ عاجزة عن رفعه، وعاجزة عن ترشيده كذلك.
وكل ما أقوله اليوم في شأن الدعم المدمر للاقتصاد السوداني قلته قبل ذلك عشرات المرات في العهد السابق، إلا أن الحكومة كانت أضعف من علي الإقدام علي مثل هذه الخطوة رغم أن كثيرين من الاقتصاديين كانوا قد نصحوها بذلك، وأذكر مرة في بداية عهد تولي الأخ معتز موسي لوزارة السدود والكهرباء عزم علي معالجة الدعم غير العادل للكهرباء، وبدأ التمهيد لذلك بحوارات مع بعض الصحفيين فوجه الدعوة لعدد من رؤساء التحرير، حضرت منهم مع الزملاء رحاب طه وبكري المدني، وحضر معه محمد عبدالرحيم جاويش مسؤول الإعلام عندهم في ذاك الزمان، وافادنا معتز في ذاك اللقاء أن استهلاك حيين فقط من أحياء الخرطوم من الكهرباء يفوق استهلاك ولايات القضارف وكسلا والبحر الأحمر مجتمعة، وقال إنه في حين يتراوح استهلاك أكثر من 80% من البيوت الشهري من الكهرباء بين 100 و300 جنيها شهريا فإن بعض البيوت يتجاوز استهلاكها الشهري خمسة آلاف من الجنيهات، وبناء علي ذلك أعدوا تعرفة جديدة لكهرباء المساكن تحافظ علي الأسعار حتى استهلاك 200 جنيها شهريا، وما زاد عن ذلك تفرض عليه تعريفة تصاعدية، وهذه التعرفة لن يتأثر بها 80% من أهل العاصمة القومية، و95% من سكان الولايات، وفي حال تطبيق هذه التعريفة العادلة تحل مشكلة الكهرباء تماما فلن تضطر الحكومة الي دعمها، وسيكون ثمن بيعها كافيا للصيانة والتحديث، وبدأت من اليوم التالي مباشرة التبشير بذلك، ولكن ما أن أشار الوزير معتز بذلك حتى هاجت الدنيا وماجت، وقاد البرلمان والحزب، والصحافة التعبئة ضد هذه المعالجة، وحجتهم الوحيدة في ذلك أن الشارع يمكن أن يثور، فتراجعت الحكومة، وأنكرت انها كانت تنوي رفع دعم الكهرباء، ومع ذلك ثار الشارع وسقطت الحكومة، لأن كارثة رفع الدعم كانت أفظع من الإبقاء عليه.
وما قلناه في الكهرباء يصدق أيضا في المحروقات لا سيما البنزين، فبينما تكفي عشرة جوالين في الأسبوع لأكثر من 75% من السيارات الخاصة، فإن بعض السيارات تستهلك أكثر من خمسين جالون في الأسبوع، فبعض الناس يترك السيارة تعمل وكذلك التكييف لأكثر من ساعتين حتى إذا خرج من الاجتماع أو الاحتفال وجدها باردة، فمن أراد التبريد والترطيب فليدفع ثمن ذلك، لهذا  نقول ليس من العدالة أن يكون ثمن الوقود الذي يستهلك لتوصيل التلاميذ الي المدارس، والعاملين الي أماكن العمل، هو ذات ثمن الذي يحرق من أجل التبريد والتلطيف، فلا بد من مراجعة تسعيرة الوقود لتحقيق العدالة التي هي واحد من أهم شعارات ثورة ديسمبر المجيدة.
أما الكارثة الأكبر والطامة الكبري التي دمرت الاقتصاد السوداني، فهي الدعم غير الرشيد للقمح، وهو أهم أسباب دمار اقتصاد بلدنا، وهذا أمر كتبت حوله مقالات عدة، فبينما كان الدعم في العهود السابقة، لا سيما في عهد مايو يذهب الي دقيق الخبز فقط، فإن الدعم في عهد الإنقاذ كان يشمل كل القمح المستورد بما في ذلك القمح الذي يستخدم في صناعة الحلويات والمعجنات والبسكويت والمكرونة وغيرها، وللذين لا يعلمون فإن بعض دول الجوار صارت تعتمد في استهلاكها من البسكويت الفاخر والمكرونة وغيرها علي الإنتاج السوداني، حيث أن الدقيق السوداني المدعوم أرخص من الدقيق في كل دول المنطقة، ومعلوم أن أكثر من 60% من القمح المدعوم يذهب الي صناعات أخري غير الخبز، مع العلم أن العدد الأكبر من أهل السودان لا يعتمدون في غذائهم علي الخبز، لا سيما الخبز الفاخر، فمراجعة سياسة دعم القمح يجب مراجعتها اليوم قبل الغد.
وحتى الدواء فإن الدعم المخصص له لا يذهب إلى الأدوية التي من أجلها تم الدعم، ولعل الناس يذكرون شركات الأدوية الوهمية التي كانت تستفيد من الدعم ولا تخصصه للدواء، افضلهم كان يشتري به أدوية لأشخاص محدودين، وبعضهم يستورد به مستحضرات تجميل، وحتى الذين يستوردون الأدوية فإن كثيرين منهم يحسبون الدولار بسعر السوق السوداء، وليس بسعر بنك السودان المدعوم جدا.
إن عدم قدرة قوي الحرية والتغيير علي الصمود في وجه الحملات غير الموضوعية ضد رفع الدعم لأمر مخيب للآمال، وتأجيل المسألة الي شهر مارس لن يغير في الأمر شيئا، فلا توجد سياسية إصلاحية لحال الاقتصاد السوداني تخلو من رفع الدعم، فمهما أقيمت من مؤتمرات لن يصل الناس الي أي شئ آخر سوي رفع الدعم، لذلك يجب الإعداد لذلك، والتهيئة له، وامتلاك الجرأة والشجاعة علي طرحه بغير تردد، ويجب أن يتم ذلك قبل فوات الأوان.

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

hala ali
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق