الاربعاء, 10 يوليو 2019 01:05 مساءً 0 479 0
بدويات
بدويات

  أسرتي الثانية بالصويرة

ما أجمل أن تسافر إلى بلد ما وتعلم أن هناك من ينتظر مجيئك وأنت تتلهف للقياهم. وما أجمل أن يشاركوك هم عملك واهتماماتك ويكتشفون حبّ وطنهم من جديد معك وبك فتأخذ وتعطي معهم تحت أجواء المهرجان العالمي لتراث القناوة. لحظات من السعادة لا توصف. سيما عندما زرنا مؤسسات الأطفال المتخلى عنهم وحملنا إليهم بعضاً من لا شيء كي ندخل السرور إلى أنفسهم ونذكر العالم وأنفسنا أولاً أن الدنيا لا تنطوي على أسرنا فسحب لكنها تمد إلى ما وراء ظهورنا، وتتسع لتشمل قلوب بعدنا عنها أو أبعدتنا سبل الحياة والجري وراء الحاجات عنها. ذكرى طفل لم يعرف لا أم ولا أب تظل محفورة في النفس إلى يوم الفراق.
سادتي دعوني أحدثكم عن صديقي عبد الحق، فهو نعم الرفيق ونعم الأخ. يأتي بعد عمل يظل هو فيه ساهراً طوال الليل ويحلف بعد أن يفصح الليل عن صبح مشرق دافئ بأشعة الشمس وموقظ بصياح العوّة (طير السمان)، ثم مقسماً أن يشاركني مباشرة دروبي الكثيرة في ترهات المدينة الزرقاء. نرفل بين أزقة ألفتني وعهدتُها في سني زيارتي السابقة. وفي أول ركن من الزقاق المقابل للرياض يتربع سي عبد اللطيف النجار دكانه الضيق، وهو الحريف صاحب الأيدي الماهرة والتحف الناضرة. وليس بعيداً منه وبنفس الزقاق أرى سي ميلود ينتظرني مترقباً بين الفينة والأخرى، يجلس ومعه سي مصطفى الحزين، رجل وكأنه يحمل هموم الدنيا على أكتافه. يقعدان طوال اليوم أمام باب أثري جميل ومرصع كأغلب بيبان حارة الملاح، الحي اليهودي القديم، يبيعون الدخان ويتبادلون أطراف الحديث مع هذا أو ذاك بكل حب واحترام. دعاني سي ميلود إلى بيته، قائلاً: سوف تأكل أجمل كسكس بالصويرة. اعتذرت بأدب منه حتى لا أرهق عاتقه بما لا يستطيع. بيد أنني وفي تلك اللحظة جلست إليه واكتفيت بدعوته لي لاحتساء الآتاي (الشاي بالنعناع). كان يقول لي: أنت بشوش يا سي محمد فابقى على صبغتك، يعني بذلك «ابق كما أنت!» لقاء حميم بشخص آدمي لا يروم في الدنيا إلا لقمة العيش الكريمة.  نسير أنا وسي عبد الحق في هذا المسرح البديع من ليال ألف ليلة وليلة، نحث الخطى بين سيدات يسحن اللوز لعمل الأكلة المحبوبة إلى نفسي والتي صارت عادتي في الفطور «أملو» أو نوتيلا المغرب. نصافحهن ويردن السلام بـ «مرحبا بك يا سيدي» أو «تفضل يا مولاي». من هناك نتجه صوب سوق المجوهرات لنلتقي صديقنا مبارك الرجل الصحراوي المبارك، الذي حباه الله من الخلق أحسنه، فنحتفي بما لديه من مجوهرات الأمازيق البديعة التي تسمى «النقرة» ومن ثم نرفل في تأن لنشرب عصير الرمان أو الليمون مع شاب خلوق، صديق قديم لسي عبد الحق، وبعد ذلك نتجه لسي محمد بائع مجوهرات، رجل مبتسم وكريم، تأخذك رحابة وجهه وبشاشته ولا تستطيع فراقه وكأنه ممغنط! ننتقي منه ما أردنا من عمل الأيدي المغربية الحريفة. وبعدها نعود أدراجنا إلى البيت لنلتقي بالسيدة الكريمة أختي للا حفيظة، مديرة رياض الفونتين بلو بالمدينة. هذه السيدة تجسد لي قمة كفاح المرأة المغربية الحرّة والدؤوبة، فهي تعمل كالنحلة بين البيت والرياض وبين هذا وذاك قضايا الأسرة والمجتمع على أضيق وأوسع نطاق. نعود ونجدها قد جلست تنتظر ببشاشة ووجه صبوح تنادينا لوجبة الغداء المفضلة «طاجين اللحم بالبرقوق». نجلس وتجلس الحبيبة أميمة، الابنة الصغيرة وشقيقة للا حفيظة، ومن ثمة أبنتها آسيا الوردة (حفظها الله)، وفوق السرير المقابل لطاولة الأكل ترقد ليس ببعيد الحبيبة الرضيعة للا إسراء. لقائي مع أسرة سي عبد الحق التي صارت كأسرتي ومع بعض الصديقات اللائي يعملن في رياض الفونتين بلو كللا مليكة، هو لقاء الروح للروح وعناق القلب للقلب. ومن أغرب الحكايات أنني في ذات المكان التقيت بصديق صويري، جاءت قبل خمس سنوات زوجته الألمانية نتاشا إلى مكتبي بمدينة كونستانس لتترجم شهاداته وقد تزوجت به من بعد. سي فؤاد كان أحد الموظفين بالرياض التي تديره للا حفيظة، وهو الذي أخبرني بأن أذهب إلى الصويرة، إلى رياض الفونتين بلو، ومنذ ذلك الوقت صارت تربطني بهذه المدينة علاقة روحية حميمة. فجئتها مع طالباتي في الأربع سنين الماضية في زيارات دراسية للمغرب. والآن أرفل لها وكأنني أسافر إلى موطني الأم.

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق