السبت, 21 سبتمبر 2019 03:43 مساءً 0 520 0
بدويات
بدويات

السيدة نباهة اسكار

تعرفت في زياراتي المتعددة إلى السفارة الإنجليزية بأنقرة على بعض الموظفين من أهل مالطا الطيبين. أعلموني في دردشاتنا الكثيرة أن لهجتهم تقرب في لكنتها ووقعها، نبرا وموسيقى، من لساني السوداني، فكم كانت دهشتي عظيمة يومذاك. ذات يوم كنت غارقا في الحديث مع أحد الموظفين المالطيين بالسفارة فإذا بنا تدخل امرأة في عقدها السابع المكتب، فقطع الموظف حديثه إلي قائلا:
-    تعال اسمع كلامها!
حدقتني العجوز بعينيها الواسعتين اللتان يعكسان أزرقية البحر ومن ثمّة سائلة بلهجتها المالطية العربية التي تشابه في انسيابها وموسيقاها التونسيّة إلا حد ما، قائلة:
-    من اين إنت؟
أجبتها:
-    من السودان.
-    كيف إنت؟
-    كويس وبخير الحمد لله!
سألتها:
-    إنتِ جيتي لي هنا وماشة مالطا؟
-    نعم، عايزة أمشي مالطا لكن ما فيش بابور.
تداخل بيننا الموظف مخاطبا لي:
-    سامع كلامها قريب لكلامكم السوداني كيف؟
على كل استمتعت كثيرا بمكوثي في أنقرة وبالتعرف على بعض أهل مالطا بالسفارة كما تعرفت على لهجتهم العربية وعبقها الحلو الذي أضرم في دخيلتي مآسي حضارتنا الإسلامية بأروبا، فمالطا أيضا أندلس مفقود. دأبت في مواصلة ما أتيت من أجله ألا وهو تخليص حوالتي النقدية (اللتر دو كردي) وعينات الجلود التي استحوذ عليها مصلحة الجمارك على الحدود التركية السورية بمدينة اصلاحيّة. فبعد أسبوع من وصولي كتب القنصل الإنجليزي بأنقرة رسالة لنظيره الإنجليزي بحلب وأعلمه بأنني رجل مستقيم ودغري كما وأنني غريب في هذه البلاد. فتكرم متفضلا وترجاه في الكتاب الذي بعثه أن يخبر الحكومة السوريّة بأن يرجعوا لي (اللتر دو كردي). كان القنصل رجلا بشوشا وخليقا أن يكون من ملّة أخرى - غير ملّة الإنجليز الباردة. تفضل بود وترحاب قائلا - بعد أن أكمل كتابة الخطاب:
-    خلاص لمن تخلص قروشك دي أنا بدينك حتى تستلم اللتر دو كردي.
وصار يسلفني كل أسبوع ١٠٠ ليرة تركية، فمكثت بتركيا قرابة الخمسين يوما ولم استلم بعد اللتر دو كردي. استاءت نفسي من الانتظار الطويل والبقاء الممل دون انشغال أو عمل أو قل دون رجاء أو سلوى. حملت حالي ورجعت أدراجي بالقطار إلى سوريا خلل اليأس والقنوط بعد أن عدلت عن السفر إلى أوروبا لنزول البرد وتساقط الجليد في شتائها المكفهر. وصلت إلى مدينة حلب والتقيت الجمركي إياه. فلما رآني ضحك وتفتحت أسارير وجهه – لا أعرف شماتة أم كبرياء - وسألني قائلا:
-    كيفااااك؟
-    يعني حاكون كيف؟ (بامتعاض)
أعلمته حانقا غاضبا أنني لم أستلم إلى الآن اللتر دو كردي، وكنت أعلم أن ليس بحيلته حجة في الأمر، لا الحل ولا الربط، فما هو إلا عبد المأمور وحمار التنفيذ. ذهبت بعدئذ إلى القنصلية وقابلت القنصل الإنجليزي حيث علمت أنه كان بمدينة الأبيض قبل حضوره إلى سوريا. استضافني بحرارة وقدم لي قهوة وتبادل معي أطراف الحديث والونسة ومن ثمّة قام يسجل الفلوس في جواز سفري وختم عليه موثقا. شعرت بالأريحية وتنفست روحي لحظتئذ الصعداء، فذهبت حاثا خطاي على التوّ إلى البنك بحلب لأصرف بعض النقود التركيّة. وقفت في الصف أنتظر دوري وكان سوريان يقفان أمامي، منهمكين في اللغو وحرارة الجدل والنكات الخاسرة والتهاتر. تبادر إلي فسمعت أحدهما يقول للآخر:
-    والله إنت العبيد بيحكوا أحسن من حكيك هادا.
فالتفت إلي الآخر وقال لصاحبه مستنكرا:
-    احرجتني مع العبد!!!
نظرت إليهما ولم أنبس. ومثلا بهيئتهما لي وكأنهما بنيجيريا يعاملان المواطنين بمدينة ميدوغري. حزنت في قرارة نفسي وكنت أقول لهم في دخيلتي: هلموا لتروا كيف نحترم أهلكم الشوام بالسودان.
في طريق رجعتي بالقطار تذكرت قصة تلك الفتاة التي التقيتها بهوتيل (بقي) بإسطنبول. كانت عفراء طويلة الفرع ممشوقة القوام انسدل شعرها الذهبي على أكتافها فألهمها رونقا ملائكا بديع التصور. كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية بأنقرة وكانت بصحبتها بنتها الصغيرة التي بلغت إذذاك أغلب الظن ربيعها الخامس. جاءت ذات ليلة إلى غرفة الاستقبال بالهوتيل ووجدتني منهمكا في الكتابة. لا أذكر ما كنت أسطره حينئذ لكنني أعتقد أن في نفس اللحظة التي خاطبتني فيها كنت أدون آية قرآنية: قل للذين .... ". سألتني هامسة وهي تبحلق في قصاصاتي الورقية بتمعن وانشداه:
-    القرآن الكريم؟
-    نعم!
كانت تحمل حلاوة من النوع الممتاز فأعطتني منها. خاطبتني بالإنجليزية وقد بدا التردد والاضطراب على وجهها. كنت أحس نظراتها الناعمة المرسلة إلي في تساؤل وبحث، كانت تنبعث دافئةمن ناظريها، حالمة عذبة مغرية وجاذبة، فقلت في نفسي لو أن ابن الرومي رآها في هذا المكان لأهداها من مأثور شعره في العيون ما ينوء بإشعاره ذوو العلم أولو الشاعريّة. تذكرت أبيات ابن الرومي في نواظر العيون وفتك اللحاظ، عندما أشعر قائلا:
نظرت فأقصدتْ الفؤاد بطرفـهـا ٭٭٭ ثم انثنت عني فكدتُ أهيمُ
ويلاه إن نظرتْ وإن هي أعرضت ٭٭٭ وقع السهام ونزعهن أليمُ
سألتني وأنا ما زلت مضطربا من وقع نظراتها الدافقة إلى ثم قالت:
-    أنا عاوزاك لمدة دقيقتين!
لم أدرك بالتمام مقصدها في الحين وكنت أسائل نفسي مرتبكا - وكأنني مراهق في سنيه الأولى - عما كانت تريده مني. ثم استطردت قائلة:
-    دقيقتان بين يديك! ؟
رجعت وتقهقرت إلى الوراء ريثما نطقت الجملة وكان الخجل قد تملكها وبدت آثار الاحمرار في وجهها الوضاح فتوارت خجلة، مبتعدة عن الأنظار بعض الشيء لكنني كنت ما أزال أراها أمام ناظري متوارية خلف حجرة الاستقبال. أصرت ثم رددت الجملة مرّة ثانية:
-    دقيقتان بين يديك! ؟ (أي "في أحضانك" بالإنجليزيّة)
أجبتها بالإنجليزيّة:
-    أنا فهمتك!
فسألتني مستفهمة سائلة:
-    هل فهمت حقا؟
وواصلت بإنجليزية فاترة:
-    نذهب حديقة!
بعد ذلك طلبت منها أن تأتي معي إلى غرفتي. توسطت بطن الغرفة وبدأت تحملق بحب استطلاع في كل أرجاءها، ويبدوا أنها لم تعثر على حقائب لي بها فبادرتني سائلة:
-    أين حقيبتك؟
-    لقد احتفظوا بها في عند الجمرك بمدينة إصلاحية على الحدود التركيّة!
بكل صدق وأمانة همّت بي وهممت بها لولا أن رأيت برهان ربي. كان اسمها نباهة أسكار. بعد تفحصها لأرجاء غرفتي بدأت تشتكي من برودتها، قائلة:
- البرد قارص والغرفة باردة جدا.
أومأت إلي طالبة مني أن أذهب معها إلى غرفتها بعد أن أخبرتني أنها أخلدت بنتها الصغيرة إلى النوم. تذكرت تلك القصة في القطار وأنا في طريقي إلى حلب. فحمدت الله أن حفظ عفتي وشرفي بيد أنني كنت ساعتذاك في فترة طلاق. صليت ركعتين تضرعا وابتهالا وتلوت الآية التي كنت أسطرها عندما بادرت بالحديث إلي: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق