الأحد, 26 ابرايل 2020 03:26 مساءً 0 492 0
تأملات
تأملات

جمال عنقرة
العسكريون.. بين المطرقة والسندان
خرجت من أزمتي الصحية الأخيرة بدروس وعبر عظيمة، أكثرها خاصة للاعتبار وليس للحديث، ولا يجوز الحديث عنها، إلا بما يمكن أن يفيد الآخرين الذين قد تنطبق عليهم مثل حالتي، من الذين بلغوا السن التي اختار الله فيها الي جواره نبيه الخاتم صلي الله عليه وسلم، وقد أدي الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركها علي المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ومثلنا، ومثل هؤلاء ينبغي أن يكون منهجهم منهج راحل، لا يطمع في شئ من حطام الدنيا الزائل، ولا يرهبه شئ يرده عن الموقف الحق، ولقد كانت هذه الأزمة التي عدت بفضل الله تعالي بمثابة إنذار قوي، وقد يكون الإنذار الأخير، ورغم أن ما قاله أخي وصديقي الأستاذ عبد الله آدم خاطر، يغرس بعض الأمل، لكنه يزيد من المسؤولية ويعظمها، وكان عبد الله قد كتب لي في رسالة مواساة، (ما كنت أدري ما حدث لك، غيرما قرأت الآن ، و اشهد الله اني ما قلقت عليك، ذلك انك على موعد مع رسالة ما، لا تكتمل إلا بك، فاطمئن أنت بخير و أمامك وقت كاف لإنجاز ما عليك إنجازه.. حي على صلاة العشاء و دعواتنا لك في سبيل اهلك و مواطنيك، ونلتقي في دروب الخير.)
وبتلك الروح التي خرجت بها من مستشفي أحمد قاسم وكأن شيئا لم يصبن، وكنت علي وشك الخروج من الحياة كلها، أكتب هذا المقال عن المؤسسة العسكرية، جيشنا جيش الوطن، جيش الهناء الحارس مالنا ودمنا، ونراه اليوم في وضع، لا أصفه، ولكن أتحدث عنه بتجرد.
ولنبدأ من الفترة الأخيرة في عهد حكم الإنقاذ السابق، حيث كان العسكريون الأكثر تحفظا علي الأوضاع في ذاك الزمان، ولما تأزم الوضع، توحدت كلمة القيادات العسكرية ممثلة في اللجنة الأمنية، التي تضم قادة الجيش والشرطة، والأمن الوطني، والدعم السريع، وانتهوا في اجتماعهم الحاسم مع الرئيس الأسبق عمر البشير، إلى انسحاب البشير من حزب المؤتمر الوطني، وحل كل أجهزة الحكم علي المستويين القومي والإقليمي، وتكوين حكومة قومية انتقالية، والإعلان عن انتخابات حرة ديمقراطية نزيهة، لا يشارك فيها البشير. فلما ذهب البشير إلي قيادات المؤتمر الوطني في المكتب القيادي، رفضوا كل ما اتفق عليه مع القيادات العسكرية، ولعلهم قد قرروا مواجهة الثورة، وهنا كان للقيادات العسكرية موقف مختلف، وهو موقف كل قواعدهم، وكان موقفا مغايرا تماما لموقف القيادات السياسية في المؤتمر الوطني، ولقد حدثت مواجهات معروفة ومشهودة بين بعض العسكريين وبعض السياسيين في الحكومة، حيث رفض العسكريون بشكل قاطع التصدي للمظاهرات، بل صاروا يدعمونها، ويدافعون عنها، وتقول بعض الروايات أنهم ساهموا في تغيير مسارها من القصر الجمهوري إلي القيادة العامة، وهذا هو التحول الجوهري والمحوري في مسار ثورة ديسمبر المجيدة. والعسكريون هم الذين حددوا ساعة الصفر، وهم الذين أبلغوا الرئيس الأسبق عمر البشير بقرار عزله من الحكم، وانتهاء عهده، وأعلنوا عمليا انتصار الثورة.
هذا الموقف الذي اتخذه القادة العسكريون جميعا، جنب البلاد ويلات مواجهات كان من الممكن أن تدخل البلاد في حالة أسوأ من حال كل دول الربيع العربي، ومعلوم أن السودان به عدد من الجيوش والحركات المسلحة، وكلها كانت لها طلائع وفرق في العاصمة الخرطوم، وفي كثير من الولايات، وقبل ذلك قطعوا الطريق أمام أي مواجهات بين المتظاهرين، وبين كل فصائل القوات النظامية، فساهموا في نجاح أعظم ثورة في العصر الحديث، وفتحوا الطريق ومهدوه لبناء وطن جديد يقوم علي قيم وشعارات الثورة، سلام حرية عدالة.
هذا الموقف النبيل من العسكريين، والذي استقبله الشعب السوداني بترحاب شديد، وانشراح، كان موقف آخرين منه مختلف تماما، وأعني قطاع كبير من منسوبي المؤتمر الوطني، ومثله من منسوبي قوي إعلان الحرية والتغيير، فبينما كان يجب أن يكون هؤلاء أسعد الناس بموقف العسكريين، فبالنسبة للمؤتمر الوطني أزاحوه بهدوء، وبالنسبة لقوي الإعلان  حققوا لهم ما عجزوا عن تحقيقه في ثورات أشرس وأعنف، مثل ما حدث في سبتمبر عام 2013م، ولكن الذي حدث أن بعض الواهمين من قيادات المؤتمر الوطني اعتبروا العسكريين قد خانوا العهد، ولعلهم كانوا يظنونهم جيش الحزب، ولا يعلمون حقيقة أنهم جيش الوطن، أما الشاطحين من مكونات الحرية والتغيير يعتبرون العسكريين قد سرقوا ثورتهم، ولعلهم لا يدرون أن هذه الثورة ما كان لها أن تحقق كل هذا النجاح في سهولة ويسر، لولا هذا الموقف الوطني النبيل من القيادات العسكرية كلها بلا استثناء.
وبهذين الموقفين المتناقضين، الواهم، والشاطح وجد العسكريون أنفسهم بين مطرقة المؤتمر الوطني، وسندان قوي الإعلان، ولا أجد خيارا أما القيادات العسكرية غير الثبات علي المبدأ، والرهان علي الشعب من بعد الله تعالي، وأية محاولة منهم لإرضاء واهم أو شاطح، سيدفع الوطن ثمنها غاليا، وأقولها صراحة، أن الإثنين - الواهمون، والشاطحون - لا خير فيهم ولا كفاية شرهم.

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق